Aliabusurra : رجل الدين الباكستاني.. الذي خرج عن المألوف
11 مارس 2010
ذات مرة، وصف الرئيس الباكستاني السابق الجنرال المتقاعد بيرفيز مشرف، العالم الديني البارز الدكتور طاهر القادري باعتباره «شخصا مفرطا في الطموح»، وربما اعتمد هذا الوصف على تجربة مشرف الشخصية مع هذا العالم الديني الباكستاني «الذي لا يكل ولا يمل».
كان الدكتور طاهر القادري قد انضم إلى الحاشية المحيطة بمشرف، كرئيس لحزبه السياسي المنشأ حديثا (حزب عوامي تحريك باكستان)، فور وقوع الانقلاب المسلح الذي دبره مشرف في أكتوبر (تشرين الأول) عام 1999. وبدأ دكتور القادري في تأييد الحكم العسكري في مختلف القضايا التي تنوعت بين الإبقاء على رئيس وزراء سابقين، بي نظير بوتو ونواز شريف، خارج الحياة السياسية والبلاد بأكملها، وضمان بقاء الجنرال مشرف في الرئاسة لفترة رئاسية تبلغ خمس سنوات عبر تعديل الدستور الباكستاني من دون اتباع الإجراءات الملائمة. في تلك الفترة، كان الجنرال مشرف يعمد لاختيار الأصوات البارزة من المجتمع لضمها إلى حكومته بهدف التصدي للتهديد الناشئ عن خصومه السياسيين، ومنهم نواز شريف وبي نظير بوتو.
وسعيا لإثبات جدارته بتولي منصب قيادي في حكومة مشرف، خاض الدكتور القادري الانتخابات البرلمانية، حيث نجح في الفوز بمقعد عن لاهور، وأبدى خلال العام ذاته تأييده الكامل لسعي مشرف للحصول على فترة رئاسية لمدة خمس سنوات من خلال تعديل الدستور، الأمر الذي قوبل باعتراض قوي من جانب الأحزاب التي تشكل التيار السياسي الرئيسي في البلاد، بينها حزب الشعب الباكستاني وحزب الرابطة الإسلامية (نواز شريف).
في تصريحاته الرسمية التي وردت بالصحف عام 2002، وصف الدكتور القادري تعديل الدستور لتمديد فترة رئاسة مشرف بأنها «ضمان لاستمرار وتعزيز الديمقراطية الحقيقية في البلاد». وفي خضم التصريحات ذاتها، انتقد القادري دور كل من نواز شريف وبي نظير بوتو اللذين على مدار الـ13 عاما الماضية تلاعبا بمصير الأمة بأكملها، حسبما قال، وبسبب سوء إدارتهما منيت البلاد بالفساد وغياب الكفاءات، مما دفع اقتصادها إلى حافة الهاوية.
ومع ذلك، لم يدم دعم الدكتور القادري لمشرف طويلا، حيث شرع في إقصاء نفسه عن نظام الأخير عام 2005، بعدما أعلن أن الحكومة العسكرية تبدي اهتماما أكبر بالظهور بمظهر «ليبرالي أمام الغرب»، وبالتالي «ليس بها مكان لعالم دين في صفوفها الأولى».
عند هذه اللحظة، حول دكتور القادري مساره تماما، وبدأ في توجيه انتقادات قاسية إلى حكومة مشرف. واستقال من البرلمان، وأصدر بيانا صحافيا مؤلفا من 59 صفحة، أدان فيه نظام مشرف بشأن القضايا كافة، من السياسات الموالية للولايات المتحدة وصولا إلى التعديلات غير الديمقراطية التي أدخلها مشرف على الدستور.
ومنذ ذلك الحين، امتنع الدكتور القادري تقريبا عن الحديث بشأن السياسة، وكرس جهوده للدعوة الدينية والوعظ. وظهر بانتظام كل مساء على إحدى القنوات التلفزيونية الخاصة - قناة «قرآن» - حيث يلقي محاضرة على مدار ساعة حول قضايا دينية وشرعية مختلفة تتعلق بالمجتمعات المسلمة في العصر الحديث. وخلال الأيام الماضية خرج الدكتور القادري من دائرة ظله في باكستان إلى أضواء لندن، حيث فسر فتواه الصادرة في 600 صفحة بتحريم العمليات الانتحارية واعتبار القائم بها «خارجا على الإسلام وكافرا». وفاجأ القادري الكثيرين ليس فقط بخطابه المعتدل ذي النكهة العلمانية، لكن أيضا بدفاعه عن الحوار بين الأديان وتقديم صورة «ثقافية» للإسلام تعبر عن جوهره النبيل، بدلا من تقديمه في صورة نمطيه بصفته «محرضا على العنف».
ومن المعروف في باكستان أن الدكتور القادري من مواليد فبراير (شباط) 1951، وتلقى تعليمه على الطريقة الصوفية السائدة في شبه القارة الهندية، التي تركز على جانب الروحاني لا الجانب التشريعي. فعلى سبيل المثال يستخدم الصوفية الموسيقى في احتفالاتهم الإسلامية في شبه القارة الهندية والتي تجد معارضة من العلماء الذين يقولون بحرمة الموسيقى في الإسلام. لكن المنتمين إلى الصوفية من أمثال الدكتور القادري حتى اليوم يستمتعون بالاستماع إلى الأغاني الدينية، بينما تمارس طالبان والجماعات الدينية الأخرى الباكستانية الدين بصورة متشددة، وربما يكون ذلك هو السبب وراء تدمير محلات بيع الأشرطة الموسيقية في شمال غربي باكستان.
ويمثل الدكتور القادري حالة فريدة من علماء الدين التقليديين في المجتمع الباكستاني، وهو ما يتضح عبر النظر إلى سيرته الأكاديمية. فبحسب السيرة الذاتية الرسمية لم يلتحق القادري بنظام المدارس الدينية التقليدية، لكنه حصل على درجة الماجستير في مجال الدراسات الإسلامية من مؤسسة تعليم علمانية هي جامعة البنجاب في لاهور.
وفي الوقت الذي حصل فيه القادري على مرتبة الشرف الأولى من جامعة البنجاب عام 1970، كان قد أكمل دراساته الإسلامية، حيث قضى ما يزيد على 10 سنوات يتعلم من والده والشيوخ الآخرين في عصره. كما درس علوم الشريعة الإسلامية واللغة الغربية، وحصل على ليسانس الدراسات الإسلامية عام 1972 من جامعة البنجاب. وفيما بعد درس قادري القانون البريطاني، وحصل على ليسانس الحقوق من جامعة البنجاب ومارس المحاماة لفترة وجيزة أما المحاكم المدنية.
ثم انتقل إلى لاهور عام 1978، وانضم إلى جامعة البنجاب كمحاضر في القانون، وأنهى رسالة الدكتوراه في الشريعة الإسلامية. كما عمل عضوا في مجلس جامعة البنجاب الذي يعد أعلى هيئة أكاديمية وإدارية للجامعة. ويقال إن الدكتور القادري لديه ألف كتاب طبع منها 360 بالفعل. وألقى هذا الخطيب المفوه الذي لا يبارى ما يزيد على 5000 محاضرة باللغات الأوردية والإنجليزية والعربية في مجالات شتى. أما أهم إنجازاته فكان تأسيس مؤسسة «منهاج القرآن» عام 1981 وهى تضم مراكز وفروعا في أكثر من 90 دولة.
وككل الشخصيات الشهيرة في المجتمع الباكستاني، لا تخلو حياة الدكتور القادري من الأمور المثيرة للجدل. ففي عام 2005 عرض شريط فيديو في وسائل الإعلام الباكستانية يظهر بعضا من أتباعه يسجدون له وهو جالس على كرسي في وسطهم. وأدى ذلك الشريط إلى عاصفة من الانتقادات في وسائل الإعلام، لكن أتباع الدكتور قادري نفوا ذلك بشدة وأصدروا بيانا للصحافة بأن هذا الشريط مزور.
واليوم لا يزال الحزب السياسي الذي أسسه الدكتور القادري (عوامي تحريك باكستان) يعمل ككيان سياسي غير بارز، من دون أن يتصدر العناوين الرئيسة للصحف الباكستانية. وعلى خلاف الحال مع معظم الأحزاب السياسية التي أنشئت على يد شخصيات دينية في باكستان، يتبع «عوامي تحريك باكستان» أجندة علمانية معلنة مثل تحسين أوضاع حقوق الإنسان في المجتمع الباكستاني وتعزيز دور المرأة في المجتمع.
بيد أن هذه المبادئ تراجعت مكانتها إلى مجرد شعارات يجري ترديدها عبر موقع الحزب على شبكة الإنترنت في غياب نشاط سياسي واضح من جانب الدكتور القادري. ومن بين الأسباب وراء انسحاب القادري من العمل السياسي النشط سلوك الناخبين الباكستانيين الذين أبدوا دوما نفورا إزاء مشاركة الشخصيات الدينية في الحياة السياسية.
إلا أن هذا لا يعني أن الرأي العالم الباكستاني لا يحترم الدكتور القادري. ويقول مسؤول في الهيئة التنظيمية لوسائل الإعلام الإلكترونية في باكستان لـ«الشرق الأوسط» إن المحاضرات الدينية للدكتور القادري عبر التلفزيون «تعد واحدة من أكثر البرامج شعبية على مستوى البلاد».
وأضاف المسؤول أنه نظرا لما يعرضه القادري من وجهات نظر علمانية فإن برنامجه «يحظى بشعبية كبيرة بصورة بالغة بين أبناء الطبقة الوسطى الحضرية الصاعدة». وتأتي فتوى القادري ضد العمليات الانتحارية بغض النظر عن هدفها أو دافعها، والتي حظيت بإشادة دولية، بمثابة استمرار للفتاوى الدينية القوية الصادرة ضد طالبان و«القاعدة»، والتي حرص على إصدارها منذ هجمات 11 سبتمبر (أيلول) 2001. وأعلن القادري في فتواه أن «التفجيرات والهجمات الانتحارية ضد أهداف مدنية لا يدينها الإسلام فحسب، وإنما تخرج مرتكبيها من حظيرة الإسلام تماما، بمعنى أنها تجعلهم كفار».
وصدر أول تنديد علني من جانب القادري ضد «القاعدة» وطالبان في أكتوبر (تشرين الأول) 2001، عندما كان مقربا من مشرف، حيث قال «تفجير السفارات أو تدمير منشآت غير عسكرية مثل مركز التجارة العالمي ليس جهادا». وأضاف أن «أولئك الذين نفذوا هجمات 11 سبتمبر (أيلول) الإرهابية لم يقتلوا آلاف الأبرياء داخل الولايات المتحدة فحسب، وإنما أيضا عرضوا أرواح ملايين المسلمين في مختلف أنحاء العالم للخطر». وجرى الترويج لفتواه على نطاق واسع من جانب وسائل الإعلام المطبوعة والإلكترونية التابعة للحكومة الباكستانية، وجرى تقديمه باعتباره شخصا يمثل «الصورة الحقيقة» للإسلام أمام الغرب.
مع تصعيد المسلحين والجماعات المتطرفة هجماتها الإرهابية داخل باكستان وشروعها في استهداف المدنيين في المدن الباكستانية، ظل الدكتور القادري ثابتا على موقفه بالتنديد بـ«المذابح» التي ترتكب، بل وظهر في بعض الأحيان كـ«صليبي وحيد» بين علماء الدين الباكستانيين، باعتباره لم يقر أي استثناءات لضرورة معارضة الإرهاب والجماعات المتطرفة.
وقد جعل ذلك منه شخصية دينية شهيرة في باكستان، ووضعه بمكانة متميزة عن رجال الدين التقليديين الذين رفضوا دوما التنديد غير المشروط بالجماعات التي تقوم بعمليات انتحارية.
فخلال العام الماضي، عندما هاجمت مجموعة تتكون من عشرة مسلحين مسجدا داخل قاعدة روالبندي، مما أسفر عن مقتل ضباط بالجيش وأطفالهم، سارع الدكتور القادرين ليس بإدانة الهجوم باعتباره «منافيا للإسلام»، وإنما نعت منفذيه بـ«الكفار». ويقول أحد طلبة الدكتور القادري في مؤسسة منهاج القرآن، المؤسسة الدينية الدولية التي أسسها الدكتور القادري في لاهور «كان ذلك انحرافا بارزا عن الموقف الديني لعلماء الدين التقليديين الباكستانيين الذين دائما ما يصورون الجماعات الإرهابية بأنها رد فعل للسياسات السيئة للحكومة الأميركية في أفغانستان».
وعلى الرغم من أن محللين باكستانيين يعتقدون أن الفتوى الأخيرة لقادري موجهة للمجتمع الدولي فقط وللمسلمين في أوروبا، لأنها أطلقت في لندن وحازت استحسان من الإعلام العالمي على العكس من الإعلام الباكستاني الذي لم تحظ فيه بأي نوع من التغطية، فإن مقربين منه يقولون إن الفتوى لم يقصد بها سوى المجتمع الدولي، بل العالم. ويقول شهيد مرسلين، المتحدث باسم المؤسسة، في بيان له «هذه الفتوى الدينية ستقدم الاطمئنان العقائدي والثقة للشباب البريطانيين المسلمين المعرضين للتغرير بهم، لتمكنهم من الوقوف في وجه وجهات النظر المتطرفة. معروف أن بريطانيا تضم أقلية مسلمة كبيرة من أصول جنوب آسيوية، استغل فيها المتطرفون الساعون إلى تجنيد مفجرين انتحاريين في المملكة المتحدة تشوش الأفكار الدينية ومعاناة أفراد العائلة نتيجة للقتال في أفغانستان وباكستان».
Comments